الاثنين

مسيحيو حلب.. من هُم وإلى أين؟

تعود أصول المسيحيين في حلب لبني تغلب من ناحية ولميراث انطاكية التي دُعي فيها أتباع المسيح مسيحيين اولاً. وقد لعبوا أدواراً اقتصادية مهمة قبل الاسلام ويسميها القديس باسيليوس الكبير (بيريا) في القرن الرابع، وشارك أساقفتها في مجمعي نيقية وخلقيدونيا، وعندما استولى عليها المسلمون عام 1260م بقيادة خالد بن الوليد، حافظوا على أوضاعها الاقتصادية حيث كانت مشهورة بالقوافل الآتية من الهند لتبادل السلع، وخصوصاً البهارات، مع منطقة بلاد الاناضول. وفي العهد العباسي برزت كعاصمة للدولة الحمدانية وبلغت أوجها في عهد سيف الدولة، وأثناء الاحتلال العثماني ظلت المدينة الثانية بعد القسطنطينية حيث سكنها القناصل والتجار أصحاب الاستيراد والتصدير، وبعد انهيار الدولة العثمانية وتسلم اتاتورك، سلخ عنها أقضية وضمها الى تركيا وهي عينتاب ومرعش واضنه ومرسيه، وهذا ما سبب نكسة اقتصادية كبيرة لتجارها.

أثناء الحكم العثماني كانت أوضاع حلب تتأثر كغيرها بمزاجية الحكّام والولاة، وقد نشأت مناطق تجمّع فيها المسيحيون بموافقة ضمنية من السلطات العثمانية.

من أهم الأحياء القديمة، حي الجديّدة، الذي تأسس أيام الدولة الجركسية المصرية بعد همجية التتار، وبحسب الارشمندريت اغناطيوس ديك، المؤرخ المسيحي الحلبي المشهور، فإن ابن شحنة والغزي يؤكدان أن حي الجديّدة نشأ في القرن الخامس عشر وكان مقتصراً على المسيحيين، وقد بنيت الجديّدة على شكل أزقة متداخلة لها بوابات تغلق عند مغيب الشمس، تتقاطع شوارعها على شكل صليب، حيث بني في وسطه مجموعة كنائس للروم الكاثوليك والارثوذكس وللارمن الكاثوليك وللموارنة، وقد دعيت تلك المنطقة الداخلية (الصليبة) ودعيت بوابات الحارات بأسماء معروفة منها بوابة الياسمين وبوابة السيسي، ويظهر أن ولاة حلب أرادوا استرضاء المسيحيين الذين كانوا من كبار التجار القاطنين في هذه الحارات، وبنوا لأنفسهم بيوتات شرقية رائعة، أمثال «بيت الوكيل» الذي صار فندقاً من الدرجة الاولى، و«بيت باسيل» الذي صار ميتماً، و«بيت غزالة» وغيره، فقام بعضهم أمثال بشير باشا العام 1653م بتشييد خان كبير ليرتاح فيه التجار الغرباء ليعرضوا بضائعهم في ساحة أمامه، تحولت مع الايام لتبادل السلع بين التجار، وخصوصاً الطيور والسمك، ثم لاحقاً أصبحت معرضاً لبيع الحطب، حتى دُعيت بساحة الحطب. كما بنوا قيصريات وهي عبارة عن أمكنة فيها أكثر من نول لغزل الحرير وحياكته، وكانت حلب مشهورة به، ومن ثم مد قسطل مياه، ما أعطى رفاهية لسكانه، فراح المسيحيون يبنون قرب بيوتهم حوانيت صغيرة، واختصوا بصناعة الخبز والعطور وبيع الخضار، ولم يحاولوا منافسة جيرانهم المسلمين الذين كانوا يختصون ببيع اللحوم والدجاج والبيض.

ولما ازداد عدد المسيحيين توسعوا الى أحياء قريبة، حيث راحوا يشترون من المسلمين بيوتهم بأسعار مغرية، فقطنوا في أحياء «الهزازة» و«ابو عجور» و«قسطل الحرامي» و«زقاق الطويل» و«الشرعسوس» و«تراب الغربا» و«اقيول» التي معناها القبب، بحسب المؤرخ ديك أو البياض بحسب آخرين. ومن ثم ازدادوا توسعاً في نهاية القرن الثامن عشر حيث صاروا في «زقاق بيلوني» و«الحلبوم»، أما في القرن التاسع عشر، فاستحدثوا أحياء جديدة لهم كـ«الحميدية» و«العزيزية» و«النيال» و«التلل» و«السليمانية» وبستان كل آب و«الجابرية»، وفي القرن العشرين صارت هناك أحياء «الميدان» حيث تجمع الارمن.

ان عملية التغاير والتوسع والانكماش كانت بحسب الاوضاع الامنية والسياسية. فأثناء حوادث 1860 تأثر بها المسيحيون سلباً كما تأثروا أسوة بغيرهم في الحرب الاولى، لكن حوادث 1936 التي حدثت في حلب بما سمي بحادثة سوق الاحد جعلت بعض المسيحيين يتركون حلب القديمة باتجاه مناطق بعيدة عنها نسبياً وشكلوا تجمعات سكنية في المعري والرام وأبعد ايضاً كحي السريان والشهباء وصولاً الى ما سمي بمنطقة الفيلات والتراسانتا والسبيل.

كان للمسيحيين مدارسهم قرب كنائسهم، فللموارنة مدرسة في «حي الحصرم» وللكاثوليك في «الشرعسوس» وللارمن في حارة «ابو عجور» والارثوذكس في حارة «عقيل»، كما ان المدارس الارسالية الاجنبية بنت مدارس ضخمة لها خارج حلب كي لا تتصارع مع المسلمين كـ«الفرير» و«الترسانتا» وراهبات المحبة.

أثناء الانتداب الفرنسي كان للمسيحيين دور مركزي في الحركة الاقتصادية والسياسية في حلب، وقد كان القنصل الفرنسي في حلب يجتمع مع كبار التجار والسياسيين، في القنصلية التي صارت لاحقاً بيتاً لعائلة أسود البرجوازية في منطقة العزيزية، كما أنشأ البرجوازيون المسيحيون نادياً خاصاً بهم دعوه بنادي حلب حيث صار منتدى لرجال الاعمال الاجانب والحلبيين، واستطاع الحرفيون ان يعتمدوا حرفاً اختص بها المسيحيون كصقل الجواهر وصناعة الذهب وأعمال الفضة، كذلك بيع وشراء الأثاث القديم (الانتيكا)، كما استوردوا السجاد العجمي، وقد تشارك الارمن الوافدون الى حلب بحكم مسيحيتهم مع الحلبيين في هذه الصناعات كما تشاركوا في أمور اخرى كالسيارات، حيث كان المسيحيون الحلبيون يستوردون السيارات في حين يعمل الارمن على تصليح السيارات بمهارة عالية، ومن ثم صاروا يصنّعون القطع او (يخرطونها) أو يلحّمون البنيان الخارجي بل يصنعونه ايضاً.

وبحكم هذه العلاقات كانت الوكالات التجارية بغالبيتها بيدهم (75 في المئة) بيد المسيحيين.

واذا كان المسيحيون لم يعملوا كثيراً بالزراعة، وبالتالي فإن ملكيتهم كانت حصراً بالبيوت والحوانيت والرأسمال المنحصر في الاثاث والذهب ومن ثم المصارف، حيث سيطروا تماماً على القطاع المصرفي، إلا انهم تأثروا أثناء التأميم وشعروا بتقييد حرياتهم التجارية والصناعية فراحوا يهاجرون. 

ويمكن رصد الهجرات في أربع مراحل، الاولى كانت الهجرة بعد 1860 والثانية بعد الحرب الاولى والثالثة بعد الوحدة مباشرة حيث شعر المسيحيون في حلب بخطر التأميم الناصري فاستقبلهم كميل شمعون بحرارة وأعطاهم إمكانية التجنيس، وقد ردوا له الجميل بالافتراع له في الانتخابات. أما الهجرة الرابعة فهي في المرحلة الاولى من حكم «البعث» حيث خشوا من القبضة العسكرية للاسد الاب وصارت منيتهم الوفود الى لبنان أو الحصول على الجنسية فيه، علماً ان أعداداً كبيرة كان لبنان مجرد محطة لهم للهجرة نحو الخارج، ففي فنزويلا قرى بكاملها من مسيحيي حلب وكذلك في البرازيل، وخصوصاً في سان باولو حيث يتجاوز عدد المسيحيين الحلبيين النصف مليون. إضافة الى الارجنتين والسلفادور، كما ان أعداداً كبيرة من مسيحيي حلب هاجر الى جنوب السودان حيث ما زالوا هناك من سلاطين صناعة الورق.

وبحسب المؤرخ ديك، واستناداً الى الغزي فإن عدد المسيحيين كان 27% من السكان ما قبل 1920، أما في عام 1922 فقد كان هناك خمسون ألف مسيحي من أصل مئة وخمسين الف نسمة، أما اليهود فكانوا بحدود 6500 نسمة.

لقد أدرك الاسد الاب أهمية المسيحيين بالنسبة للعلويين أمام الاكثرية السنية، فاعتمد عليهم في المؤسسات الرسمية والخاصة وأعطاهم المركز الثاني بعد العلويين، ولكن هذا المركز هو المركز التنفيذي، ذو النجدة في تسيير الاعمال، فالمدير العام هو علوي ونائبه مسيحي، وهو الذي يسيّر الاعمال، وكذلك الحال في المؤسسات المؤممة الكبرى، وكذلك الحال حتى في المصارف حيث لعب المسيحيون دوراً مهماً في الادارة المصرفية. أما في الجيش والقوى الامنية فهم في مراكز أمنية حساسة لكنهم دائماً تحت رئاسة علوية.

تقلص عدد المسيحيين بسبب الهجرة، وبسبب العائلة الصغيرة التي لا تتجاوز الولدين فإن عددهم تدنى الى 10% من مجموع السكان في سوريا، علماً ان حلب ما زالت تحافظ على نسبة مرتفعة نسبياً بحيث تجاوز عدد المسيحيين 250,000 نسمة مقابل مليون ونصف مليون.

مع ذلك، فإن الحكم السوري كان يرغب على ما يبدو بأن يبقى المسيحيون في الإطار الاقتصادي أكثر من السياسي، اذ لم يعطوا أكثر من 16 مقعداً في مجلس الشعب لدورة العام 2006 من أصل 252 مقعداً أي ما يشكل أكثر بقليل من 6% .

بعد اندلاع الأزمة في حلب غادر المسيحيون في الاطراف البرجوازية المدينة، خصوصاً في أحياء «السبيل» و«الجلاء» ومنطقة «الفيلات»، لكن المسيحيين في «السليمانية» ما زال القسم الاكبر منهم قابعاً في بيته خائفاً منتظراً النتيجة، والارمن في حي الميدان متوجسين شراً، ان السكان المسيحيين في هذين الحيين الكبيرين نسبياً ـ يضمان أكثر من سبعين الف مسيحي وثمانين الف ارمني ـ في حرج شديد، فالارمن يخافون من المسلمين السنّة لسببين، الاول، لا يريدون العودة الى ان يكونوا ذميين، والثاني، لأنهم يخشون من سطوة تركية على سوريا تذكرهم بجزارين ذبحوا أهلهم. وفي الوقت ذاته لا يجدون أنفسهم منحازين للنظام، لأنه باع حقوقهم، عندما تصالح مع الأتراك في صفقة اللواء أمام الماء. وهم يشعرون انه اذا ما تركوا بيوتهم فليست لديهم المقدرة على إيجاد مكان لهم في لبنان، حيث هو الدولة الوحيدة التي يمكن ان يفكروا بالهجرة اليها.

المسيحيون في حلب ينتظرون آملين ألا تصبح المعارك بين بيوتهم وهم لن يحملوا السلاح نصرة لنظام لم يأبه لأوضاعهم خلال أكثر من نصف قرن، كما لن يحملوا السلاح مع ثوار غير معروفة نياتهم تجاههم.

مسيحيو حلب بانتظار حسم المعركة كي يعودوا فيتأقلموا من جديد مع ما هو مستجد.

أستاذ الاعلام السياسي ـ الجامعة اللبنانية

ميشال سبع